الطوفان بين الحقيقة والأسطورة - إعداد: محمّد فيض الله الحامدي1
الطوفان بين الحقيقة والأسطورة - إعداد: محمّد فيض الله الحامدي1
في مجلس أنس جمع شلة من الأصحاب، احتد النقاش حول طوفان نوح، هل كان الطوفان عاماً على كامل الكرة الأرضية؟ أم حدث في موقع جغرافي محدد كبلاد ما بين النهرين؟ وهل البشرية الحالية هي من سلالة نوح فقط؟ وهل حمل نوح معه كل الأنواع الحيوانية التي تتنفس الهواء وهي آلاف الأنواع؟ وأين رست سفينة نوح؟ على الجودي أم على أرارات؟ وهل حمل نوح زوجته في السفينة؟
وأسهمت في النقاش بقدر اطلاعي على هذا الموضوع، وكان رأيي أن الطوفان حدث في زمن ما وفي مكان معين، وترك أثراً كبيراً في وجدان الناجين، وتناقلت ذاكرة الأجيال هذا الحدث، بصيغ مختلفة فكانت أساطير الطوفان، وجاءت الكتب المقدسة لتؤكد حقيقة الطوفان، ففصلت التوراة قصة الطوفان وأجمل القرآن.
وفي هذا البحث سأتناول الطوفان في الروايات الأسطورية، ثم رواية التوراة، وقصة الطوفان في القرآن الكريم. ثم الدلائل التاريخية والجيولوجية على حدوثه، مع التعليق المناسب في المكان المناسب.
أساطير الطوفان:
أساطير الطوفان منتشرة في جميع أنحاء العالم عند الشعوب المتحضرة والبدائية، وقد كشفت الحفريات التي تمت في منطقة بلاد ما بين النهرين، عن ألواح ورقم دوِّنت عليها ملاحم أدبية تتحدث عن الخليقة وفي سياقها ترد حادثة الطوفان، فهناك الملحمة السومرية والملحمة الأكادية (البابلية) وفي تراث الهند الثقافي ملحمة ورد فيها عن الطوفان ما يشبه إلى حدٍّ ما ملاحم بلاد الرافدين والأسطورة اليونانية عن الطوفان مقتبسة من بلاد ما بين النهرين مع تعديل بسيط. وتبدو رواية التوراة والطوفان متشابهة مع رواية الطوفان في الأساطير السومرية والبابلية. أما القرآن الكريم فقد أجمل القصة كما ذكرنا ولم يحدد مكان وزمان الطوفان ولم يحدد من كان مع نوح، ولكن أكد على حقيقة الطوفان. ونبدأ بالأسطورة السومرية.
أولاً-النص السومري عن الطوفان:
"السومريون شعب سكن في بلاد ما بين النهرين في الألف الرابع قبل الميلاد، ويعتقد العلماء أن هذا الشعب قدم إلى هذه البلاد من مرتفعات فارس أو المنطقة الواقعة وراء الخليج العربي"(1) ولدى التنقيب في خرائب مدينة (نفر) السومرية عام 1914م عثر العالم آرنو بوبل Arno Bobel على مجموعة ألواح تعود للألف الثالث قبل الميلاد، دوِّن عليها نص عن الطوفان يتشابه مع رواية التوراة عن الطوفان، فترك ذلك الاكتشاف صدى واسعاً في الأوساط العلمية، والنص فيه تشوه، ولكن المقروء منه، ملخصه أن الآلهة قررت إفناء البشر بالطوفان، وبعض الآلهة كان معارضاً لهذا القرار، وأحدهم أخذ على عاتقه مهمة إنقاذ بذرة الحياة على الأرض، وكان على الأرض ملك صالح يدعى "زيو سودرا" فيتصل به الإله المنقذ من وراء حجاب فيخبره بقرار الإفناء، وفيما يلي مقاطع من الأسطورة(2): "في ذلك الحين بكت "ننتو" كامرأة في المخاض. وأنانا المقدسة ناحت على شعبها. وانكي تفكَّر ملياً وقلب الأمر على وجوهه... في تلك الأيام "زيو سودرا" كان ملكاً وقيِّماً على المعبد. قام بتقدمة ذبيحة عظيمة جداً، وجعل يسجد بخضوع... بتبجيل. وبإصرار كل يوم كان يقف منتظراً وحي الآلهة. فرأى في أحد الأيام حلماً لم يرَ له مثيلاً قط" يتشوه النص والمقاطع التالية تقول: "زيو سودرا واقفاً بجانبه (أي الجدار) يسمع صوتاً. قف قرب الجدار على يساري واسمع، سأتوجه لك بكلمة عند الجدار فاتبع ما أقوله لك وأعط أذناً صاغية لوصاياي، بأيدينا سنرسل طوفاناً من المطر... للقضاء على بني الإنسان... ذلك حكم وقضاء مجمع الآلهة. قضاء (آنو) و (أنليل). لمحو سلطة البشر والقضاء على حكمهم".
يتشوه النص، تليه مقاطع واضحة عن حوادث الجو التي أدت إلى الطوفان: "هبت كل العواصف دفعة واحدة. ودفعت سيول الأمطار أمامها...، بعد سبعة أيام وسبعة ليال، غمرت سيول الأمطار وجه الأرض، ودفعت العواصف المركب العملاق فوق المياه العظيمة. ثم ظهر "أتو" –أي إله الشمس- ناشراً ضوءه على السماء والأرض. فتح زيو سودرا كوة في المركب الكبير وسمح لأشعة البطل "أوتو" بالدخول إليه. زيو سودرا الملك خرَّ ساجداً أمام أوتو ونحر ثوراً وقدم ذبيحة من غنم". يتشوه النص ولكن تنتهي القصة بـ "زيو سودرا الملك سجد أمام آنو وأنليل. ومثل إله وهباه حياة أبدية، ومثل إله وهباه حياة خالدة، عند ذلك زيو سودرا الملك دعي حافظ بذرة الحياة، وفي أرض... دلمون حيث تشرق الشمس أسكناه".
ومن هذا النص السومري نسجل الملاحظات التالية:
1-إيمان الشعب السومري بتعدد الآلهة، وقرار الطوفان يصدر من مجمع الآلهة لتدمير البشر والحياة على الأرض.
2-صاحب السفينة هو زيو سودرا وهو ملك وقيِّم على المعبد، فهو رجل صالح، يخبره أحد الآلهة بقرار الطوفان، ويأمره ببناء السفينة (المركب العملاق). لينجو بنفسه.
3-حدوث الطوفان بعواصف جوية، وأمطار غزيرة دامت سبعة أيام بلياليها، ونجاة زيو سودرا.
4-لم تحدد الأسطورة مكان استواء المركب العملاق، ولكن يفهم أنه في أرض دلمون حيث تشرق الشمس.
5-يفهم من النص المكتشف أن الطوفان عام، لأنه دمَّر الحياة على الأرض، وزيو سودرا أنقذ بذرة الحياة. ولكن مدة العواصف والأمطار غير كافية لتشكيل طوفان يعم كامل الأرض.
6-لم يكلف زيو سودرا بتبليغ قومه قرار الآلهة، ولم يكن رسولاً، ولكن كان صالحاً متعبداً فاختارته الآلهة لصلاحه، لينقذ بذرة الحياة، وينجو من الغرق.
ثانياً، النص البابلي عن الطوفان: (ملحمة جلجامش):
"في عام 1872 أعلن الباحث الإنكليزي جورج سميث أنه قد توصل لحل رموز أحد ألواح مكتبة الملك الآشوري "آشور بانيبال" في نينوى، الذي حكم في القرن السابع قبل الميلاد وأن هذا اللوح يحتوي على نص للطوفان. فتتابعت البعثات التنقيبية على المنطقة لاكتشاف المزيد.
إلى أن تمَّ العثور على الألواح الاثني عشر التي تشكل ملحمة جلجامش التي تأخذ قصة الطوفان معظم اللوح الحادي عشر منها"(3).
ومن غير الدخول في تفاصيل ملحمة جلجامش Gelgamish، يفقد جلجامش صديقه (أنكيدو) فيحزن عليه، ويريد إعادة الحياة له، فيهيم على وجهه في البراري والقفار باحثاً عن سر الخلود، ويقصد جلجامش شخصاً يدعى "أوت –نابشتيم" Ut Napishtim الذي منَّت عليه الآلهة بالحياة السرمدية، ليسأله عن سر الخلود. ويصل جلجامش إليه بصعوبة ويسأله عن سر الخلود، فيقص عليه (أوت- نابشتيم) كيف حصل على الحياة الأبدية بحادث فريد هو الطوفان الكبير وفيما يلي مقاطع من الأسطورة(4): يسألُ جلجامشُ أوت –نابشتيم "أخبرني كيف حصلت على رفقة الآلهة ونلتَ الخلود؟ فقال أوت –نابشتيم لجلجامش: جلجامش... سأكشف لك سراً كان مخبوءاً، وأبوح لك بسرٍ من أسرار الآلهة. "شوريباك" مدينة أنت تعرفها، تقع على شاطئ نهر الفرات. لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها، فحدثتهم نفوسهم أن يرسلوا طوفاناً. كان هناك "آنو" أبوهم، كما كان "أنليل" مستشارهم و "ننورتا" ممثلهم و "اينوجي" وزيرهم، و "ننجيكو" الذي هو "أيا" كان حاضراً أيضاً، فنقل حديثهم إلى كوخ القصب – (بيت أوت- نابشتيم) –يا كوخ القصب يا كوخ القصب، جدار يا جدار، اصغ يا كوخ القصب، وتفكر يا جدار، رجل شوريباك، يا ابن أوبارا-توتو. قوِّض بيتك وابنِ سفينةً. اهجر ممتلكاتك وانج بنفسك. اترك متاعك وأنقذ حياتك. اعمل على حمل بذرة كل ذي حياة. والسفينة التي أنت بانيها، ستكون وفقاً لمقاسات مضبوطة. فيكون عرضها معادلاً لطولها، وغطها كما هي المياه السفلى. عندما فهمت ذلك قلت لـ "إيا" مولاي: سأضع نصب عيني ما قد أمرتني به وأعمل على تنفيذه".
ويتابع أوت-نابشتيم حديث لجلجامش، إلى أن يقول: "وفي اليوم الخامس أنهيت هيكل السفينة، كانت أرضيتها "ايكو" واحد – (مقياس يعادل 3600م2) – وارتفاع جدرانها مائة وعشرين ذراعاً، وطول كل جانب من جوانب سطحها مائة وعشرين ذراعاً، حددتُ شكلها الخارجي وشكلته، وستة سطوح سفلية بنيت فيها، وبذلك قسمتها لسبعة طوابق. كما قمت بتقسيم أرضيتها لتسعة أقسام، وثبت على جوانبها مصدرات الماء. زودتها بالمؤمن والذخيرة" ويتابع أوت نابشتيم حديثه حتى يصل إلى "حملتُ إليها كل ما أملكه. كل ما أملكه من فضة، حملتُ إليها. كل ما أملكه من ذهب حملتُ إليها. كل ما لدي من بذور كل شيء حي حملت إليها. وبعد أن أدخلتُ إليها أهلي وأقاربي جميعاً، وطرائد البرية ووحوشها وكل أصحاب الحرف، عين لي الإله "شمش" وقتاً محدداً: (عندما يرسل سيد العاصفة مطراً مدمراً في المساء أدخل الفلك وأغلق عليك بابك). وما إن أزف الموعد، حتى أرسل سيد العاصفة مطراً مدمراً في المساء. قلبتُ وجهي في السماء كان الجو مرعباً للنظر، دخلتُ السفينة وأغلقتُ عليَّ بابي، وأسلمتُ قيادها للملاح "بوزور-آموري" أسلمته الهيكل العظيم بكل ما فيه. وما إن لاحت تباشير الصباح، حتى علت الأفق غيمة كبيرة سوداء، يجلجل في وسطها صوت "حدد"- ويسبقها "شوللات" و "خانيش" –اقتلع "أريجال" الدعائم وقام "ننورتا" بفتح السدود. رفع (الأنوناكي) مشاعلهم، حتى أضاءت الأرض ببريقها. إلا أن ثورة حدد بلغت حدود السماء، أحالت إلى ظلمة ما كان مضيئاً، وقام بتحطيم الأرض كما تحطم الجرَّة، عصفت الرياح العاتية يوماً كاملاً، بعنف عصفت... أتت على الناس وحصدتهم كما الحرب، حتى عمي الأخ عن أخيه، وبات أهل السماء لا يرون أهل الأرض، حتى الآلهة ذعروا من هذا الطوفان، وهربوا صاعدين إلى سماء "آنو". انكمشوا كالكلاب الخائفة وربضوا في أسى.
صرخت "عشتار" كامرأة في المخاض، ناحت سيدة الآلهة ذات الصوت العذب: (لقد آلت إلى طين تلك الأيام القديمة، ذاك بأنني نطقت بالشر في مجمع الآلهة، فكيف استطعت أن آمر بمثل هذا الشر؟ كيف استطعت أن آمر بالحرب لتدمير شعبي؟ تدمير من أعطيتهم أنا الميلاد. وها هم يملأون اليمّ كصغار السمك). وبكى معها آلهة الأنوناكي، وجلسوا يندبون وينوحون وقد غطّوا أفواههم.
ستة أيام وستة ليال، والرياح تهب، والعاصفة وسيول المطر تطغى على الأرض،ومع حلول اليوم السابع، العاصفة والطوفان خفت من وطأتها، وكانت قبل كأنها الجيوش المحاربة، وأخذ البحر يهدأ والعاصفة تسكن. والطوفان يتوقف، فتحت نافذة فوقع النور على وجهي، نظرت إلى البحر كان الهدوء شاملاً، وقد عاد البشر إلى طين".
ويتابع أوت –نابشتيم حديثه لجلجامش: "واستقرت السفينة على جبل (نصير)، أمسك الجبل بالسفينة ومنعها من الحركة. ومضى اليوم الأول والثاني والجبل ممسكاً بالسفينة. ومضى اليوم الثالث والرابع والجبل ممسكاً بالسفينة. ومضى اليوم الخامس والسادس والجبل ممسكاً بالسفينة. وعندما حلَّ اليوم السابع، أتيت بحمامة وأطلقتها في السماء. طارت الحمامة بعيداً، وما لبثت أن عادت إليَّ، لم تجد مستقراً فآبت. فأتيتُ بسنونو وأطلقته في السماء، طار بعيداً ثم أتيت بغراب وأطلقته في السماء، فطار الغراب وما لبث أن عاد إليَّ. لم يجد موطئاً لقدميه فآب.
بعيداً، ولما رأى أن الماء قد انحسر، أكل وحام وحط ولم يعد. عند ذلك أطلقتُ الجميع للجهات الأربع، وقدمت أضحية" ويتابع أوت-نابشتيم حديثه، فيبين ما فعله على قمة الجبل من أضحية وتجمع الآلهة، والحوار الذي دار بين الآلهة حول الطوفان ونتائجه، ويخلص إلى القول: "فصعد أنليل إلى السفينة وأخذ بيدي وأصعدني معه. كما أصعد زوجتي أيضاً، وجعلها تركع إلى جواري، ثم وقف بيننا ولمس جبهتينا مباركاً: "ما كنت يا أوت –نابشتيم إلا بشراً فانياً، ولكنك وزوجك منذ الآن ستغدوان مثلنا (خالدين) وفي القاصي البعيد عند فم الأنهار ستعيشان" ثم أخذوني وأسكنوني في البعيد حيث فم الأنهار".
يعتبر هذا النص أهم نصوص الطوفان في بلاد الرافدين، لأنه كامل، ولدقة تعابيره وحسن صياغته، وقد اجتزأتُ بعض الفقرات من النص، فمن أراد الإطلاع على النص الكامل يمكن العودة إلى المرجع المحدد بالهامش.
والملاحظات التي نسجلها من قراءة النص البابلي للطوفان في ملحمة جلجامش هي:
1-إيمان الشعب البابلي بتعدد الآلهة، كالشعب السومري، وقرار الطوفان يتخذه مجموعة من الآلهة، لتدمير شوريباك على نهر الفرات، ولكن ورود مقطع يبين ذعر الآلهة أو بعضها وانكماشهم كالكلاب الخائفة، يشير إلى نظرة البابليين إلى مكانة الآلهة وقداستهم فحدث الطوفان جلب النقمة حتى على الآلهة.
2-صاحب السفينة هو أوت –نابشتيم- ويخبره "أيا" أن يصنع سفينة بمواصفات معينة، فيحمل هذا الرجل إليها كل ما يملك من ذهب وفضة وبذور كل شيء حي، ثم يدخل هو وأهله وأقاربه وأصحاب الحرف وطرائد البرية والوحوش، ويطلقهم في الجهات الأربع بعد الطوفان فكأن الحياة على الأرض ابتدأت من جديد بعد الطوفان.
3-حدوث الطوفان بعواصف رعدية مرعبة، وتفجر الأرض بالينابيع عندما قام حدد بتحطيم الأرض كما تحطم الجرَّة. ودامت العواصف ستة أيام بلياليها، وهدأت في اليوم السابع.
4-مكان الطوفان هو بلاد ما بين النهرين "شوريباك التي تقع على الفرات" وتستقر السفينة على جبل نصير (يقع بين الفرات والزاب الصغير)، وتبقى السفينة ستة أيام على قمة الجبل قبل أن يطلق أوت نابشتيم الحمامة ثم السنونو ثم الغراب ليستطلع، هل حدث انحسار الماء. وهذا يفيد أن الطوفان لم يكن عاماً، فجبل نصير منخفض بالنسبة لجبال أخرى كثيرة في المنطقة.
5-لم يكن أوت-نابشتيم ملكاً أو رسولاً إلى قومه، ويبدو أنه كان فقيراً لأنه يعيش في كوخ القصب، والذين نجو معه في السفينة هم أهله وأقرباؤه وأصحاب الحرف، وهذا يوحي بنجاة عدد كبير من الناس معه، ولكن نيل الخلود كان من نصيب أوت- نابشتيم وزوجته.
وفي النص إشارة إلى انتقال أوت- نابشتيم باتجاه الشمال حيث فم الأنهار (أي منابع الأنهار) فالمناطق المرتفعة أكثر أماناً من الأماكن المنخفضة عند حدوث الفيضانات.
ونشير هنا إلى أن بعض أساطير أخرى عن الطوفان وجدت مدونة على ألواح، تم اكتشافها في بلاد ما بين النهرين تعود للعهود البابلية الكلدانية. ولكن أغلبها مشوه أو كسرات غير كاملة، فقد عثر على كسرة من لوح في خرائب مدينة "نيبور" والمدون عليها جزء من قصة الطوفان "سأقوم بافلات وتحرير... سوف يأخذ الناس أجمعين... قبل أن يحل الطوفان... سأسبب الخراب والدمار والفناء... قم ببناء سفينة كبيرة... سيكون هيكلها سفينة عظيمة ستكون، وسيكون اسمها حافظة الحياة... قم بتغطيتها بغطاء متين وإلى السفينة التي صنعت واجلب وحوش البر وطيور السماء"(5).
الفكرة التي دونت على الكرة رغم نقصها، تشير إلى طوفان قادم، وشخص يؤمر ببناء سفينة للحفاظ على الحياة، يحمل الوحوش وطيور السماء، والنص يؤكد انتشار أسطورة الطوفان في المنطقة.
وثمة ملحمة أخرى بنص بابلي وصلتنا موزعة على كسرات عديدة، بطلها "أتراحيس" فعرفت باسم ملحمة أتراحيس، وهي تتحدث عن غضب (أنليل) على البشر بسبب تكاثرهم وضجيجهم الذي منعه من النوم، فيأمر (أنليل) بقلع الأشجار ويطلب من (حدد) حجب المطر ومن (نيسابا) حجب صدرها الخصب والهدف هو تعريض البشر للقحط وفي الملحمة مصائب أخرى سلطها أنليل على البشر كالأمراض والأوبئة، وفي الملحمة جزء خاص بالطوفان "ففتح أنكي فمه وقال مخاطباً أنليل لماذا أمرت؟... سأمد يد المساعدة إلى البشر... والطوفان الذي قد أمرت به..." يتشوه النص، وفي كسرة أخرى "وفي الوقت المحدد الذي سأعينه لك، أدخل الفلك وأغلق عليك بابك، أحمل إليها الحبوب والمتاع والمواشي، زوجك وعائلتك وأقرباءك وأصحاب الحرف، طرائد البرية ووحوشها، وما استطعت من أكلة الأعشاب، سأدفع بها إليك، وتقبع عند أبوابك تحرسها لك. ففتح أتراحيس فمه وقال محدثاً "إيا" مولاه: لم يسبق لي أن بنيت سفينة، فهلا رسمت لي شكلاً لها على الأرض أستعين به على بنائها؟... ثم إني سأعمل على تنفيذ ما أمرتني به"(6),
إن ما وصلنا من ملحمة أتراحيس بخصوص الطوفان، يتشابه مع ملحمة جلجاميش في بعض النقاط، كحمل الحبوب والمتاع والمواشي، ثم الأهل والأقرباء وأصحاب الحرف، وصناعة السفينة بوحي من "إيا"، ولكن بطل الأسطورة في ملحمة جلجامش الذي هو أوت- نابشتيم يصبح أتراحيس، ومعنى أوت-نابشتيم "الذي رأى الحياة" أما معنى (أتراحيس) فهو "الواسع الحكمة". وسنرى أن أسماء الآلهة وبطل الطوفان والمواقع تتغير عندما نقلت أسطورة الطوفان إلى الآداب اليونانية، كما يظهر في نص بيروسوس، والأسطورة اليونانية عن الطوفان.
نص بيروسوس(7):
بيروسوس كاهن مردوخ في بابل، في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، دوَّن تاريخ بابل بالاعتماد على الوثائق المدونة على الألواح ونقلها إلى اليونانية عام (275) قبل الميلاد، فضاع معظمها، ولكن ما يتعلق بالطوفان، ظهرت في أعمال الكاتب ألكسند بوليستر في القرن الأول قبل الميلاد، اقتبسها من رواية بيروسوس عن الطوفان، وملخص الرواية "أن الملك أكسوثروس" بن "أرديتس" رأى حلماً، تجلى له فيه الإله (كرونوس) فيخبره الإله بإهلاك الحياة على الأرض بطوفان مدمر، فيأمره بكتابة ألواح عن بداية كل شيء وتطوره ونهايته، وطمر هذه الألواح في (سيبارا) مدينة إله الشمس. كما يأمره ببناء سفينة، لتحمله مع عائلته وأقربائه، ويحمل فيها من كل ما يطير ويدب على الأرض، ويبني الملك سفينة طولها خمسة (استاديا) وعرضها اثنتا (استاديا)، وحمل فيها وفق المشيئة الإلهية ثم صعد مع زوجته وأولاده المقربين إليه.
ويحدث الطوفان، وبعد هدوئه يرسل اكسوثروس الطيور مرتين، وتعود لعدم انحسار الماء، ثم يرسل ثالثة فلا تعود الطيور، فيعرف اكسوثروس أن الأرض انكشفت. واستوت السفينة على أحد الجبال. وينزل الملك وزوجته وملاح السفينة على الأرض، فسجد الملك وبنى مذبحاً، وقدَّم قرباناً للآلهة. بعد ذلك نزل الذين كانوا في السفينة للبحث عن اكسوثروس لأنه تأخر عليهم، فلم يجدوه، فأتاهم صوت من السماء يأمرهم بالتقوى والصلاح، ويخبرهم أن اكسيوثروس رفع إلى السماء إلى الآلهة، ليعيش معهم عيشة خالدة، بسبب تقواه و صلاحه. كما أخبرهم الصوت أن مكان استواء السفينة هو إحدى بقاع أرمينيا وعليهم أن يعودوا إلى بابل ليستعيدوا الألواح المطمورة في سيبارا، وعندما سمع القوم ما قاله لهم الصوت السماوي، قدموا الأضاحي للآلهة، ومضوا إلى بابل، فاسترجعوا الألواح، وبنوا المدينة من جديد، وأشادوا مدناً كثيرة وأقاموا المعابد والهياكل".
والملاحظات على نص بيروسوس: أنه غير اسم الإله "ايا" إلى اسم إله يوناني وهو "كرونوس" وبطل الطوفان هو ملك مثل زيوسودرا ولكن اسمه يوناني اكسوثروس، والنص ابتعد عن التفصيلات التي تتعلق بحالة الجو، فأعطى واقعية أكثر للرواية ويتركز اهتمام القارئ على الهدف من الطوفان والنتائج. واختفاء اكسوثروس ورفعه إلى السماء، فكرة متقدمة في مجال العقيدة الدينية، فالعروج إلى السماء وارد في الأديان السماوية، كما أن سماع القوم نداءً من السماء دون رؤية الآلهة ومخاطبتهم مباشرة، فيه تنزيل للآلهة من التجسد، والنص يشير إلى مكان استواء السفينة (أرمينيا) التي يقع فيها جبل آرارات حالياً.
ثالثاً-الأسطورة اليونانية عن الطوفان(
:
يرجح معظم العلماء أن الأسطورة اليونانية مقتبسة من أساطير الطوفان في بلاد ما بين النهرين وقد ذكرها "هسيود" الشاعر اليوناني الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد. في ملحمة شعرية. وملخص الرواية أن "زيوس" –Zeus كبير الآلهة غضب على البشر لازدياد شرورهم وعصيانهم الدائم وذلك يشكل خطراً دائماً يهدد الآلهة، فقرر إبادتهم بالطوفان، وقد أخبر زيوس "بروميثس" بقرار الطوفان رغم ما بينهما من عداوة فقد كان زيوس يخشى سطوة بروميثوس لتعاطفه مع البشر. فأخبر بروميثوس ابنه دوكاليون Deucalion وكان هذا ملكاً صالحاً، أمه حورية البحر "كليمينة" وكان متزوجاًمن (بيرا) Pyrrha بنت ايبيميثيوس وباندورا، وقد حكم دوكاليون تساليا بالعدل وطلب بروميثوس من ابنه أن يصنع سفينة لينجو بنفسه مع زوجته (بيرا). فصنعها، وفي اليوم الموعود انفتحت أبواب السماء بالمطر الغزير، فغطت المياه وجه الأرض، وأهلكت الصغير والكبير، ودام الطوفان تسعة أيام بلياليها، وبقي الفلك عائماً على وجه الماء وعلى متنه دوكاليون وزوجته فقط، وفي اليوم العاشر، حطت السفينة على جبل (البرناس) Parnasse.
فخرج دوكاليون وزوجته من الفلك وقدم ذبيحة لأبي الآلهة (زيوس) فدخلت الرحمة في قلبه، وتنسم رائحة الضحية بانشراح، ورضي على مقدمها، فأرسل زيوس رسوله (هرمس) ليسألهما عن أمنيتهما، فأجابا بأنهما يتمنيان عودة الجنس البشري، إيناساً لوحشتهما، فأمرهما أن يلقيا عظام جدتهما، وبعد تفكير أدرك دوكاليون أن عظام جدتهما ليست سوى حجارة الأرض التي هي جدتهما "لييا" فنفذا الأمر، فكان الذكور من الحجارة التي يلقيها دوكاليون خلفه، والإناث من الحجارة التي تلقيها "بيرا" خلفها، فنشأت البشرية من جديد من أناس أكثر صلابة وشجاعة.
ونسجل على هذه الأسطورة الملاحظات التالية:
1-قرار الطوفان يتخذه زيوس كبير الآلهة، فما زالت فكرة تعدد الآلهة موجودة، وسبب الطوفان هو شرور البشر وعصيانهم.
2-صاحب السفينة دوكاليون هو ملك عادل وابن لبروميثوس (النبي) الذي كان متعاطفاً مع البشر، فهو مثل زيوسودرا الملك، ومثل نوح في التوراة من سلالة نبي.
3-مكان هبوط السفينة، أرض اليونان –جبل البرناس وارتفاعه حالياً (2459)م. والطوفان أهلك كل البشرية بدون استثناء، ما عدا دوكاليون وزوجته.
4-البشرية الحالية خلق جديد من حجارة الأرض، وهذه الفكرة تربط بين الإنسان وأصله من تراب.
رابعاً: الأسطورة الهندية عن الطوفان(9):
"تقول الأسطورة: إن "مانو" وهو ابن الله كان يغسل يديه، فجاءت في يده سمكة صغيرة، وكلمته السمكة، وطلبت منه أن ينقذها من الهلاك، ووعدته جزاءً عليه أن تنقذه في المستقبل من خطر عظيم، وهو طوفان عارم سيجرف جميع المخلوقات، فحفظ مانو السمكة في وعاء ولما كبرت السمكة أخبرت مانو عن السنة التي سيحدث فيها الطوفان، وأشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، وصنع مانو السفينة وكبرت السمكة فألقاها في البحر، وحدث الطوفان، وعندما دخل مانو السفينة، عامت إليه السمكة، فربط السفينة بقرن على رأسها، فسحبتها إلى الجبال الشمالية، وربط مانو السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخف بقي مانو وحيداً.
وانهمك مانو في العبادة، وكان يتمنى أن يخلف في الأرض، فقدم ضحية، وبعد سنة خلفت الضحية امرأة، فأخبرت المرأة مانو أنها ابنته لأنها خلقت من ضحيته وقالت: أنا بركة استعملني في القربان تصبح غنياً في الأخلاف والمواشي، واستمر مانو في العبادة والمجاهدة مع المرأة، فأنتجا هذه الذرية، فهي ذرية مانو، وأي نعمة طلبها مانو بواسطتها أعطيت له". والملاحظات على الأسطورة الهندية، أنها تتشابه في بعض عناصرها مع أساطير بلاد الرافدين، كحدوث طوفان عارم مدمر لكل مظاهر الحياة والبشر، ثم بناء سفينة كبيرة من قبل شخص يعلم مسبقاً بحدوث الطوفان، واستواء السفينة فوق جبل مرتفع، والبشر الحاليين من سلالة ذلك الشخص الناجي وهو رجل عابد صالح تقي.
لكنها تختلف عن أساطير بلاد الرافدين بثلاثة نقاط وهي:
1-السمكة تخبر مانو بالطوفان، (حوار بين الإنسان والحيوان)، وفي سياق الأسطورة لا توجد غرابة في هذا الحوار ولكن تدل على مرحلة بدائية في العقيدة الدينية.
2-كان الطوفان عارماً، والسمكة جرت السفينة نحو الشمال، (خيال بدائي) وربط مانو السفينة بشجرة، وهذا يدل أن الماء لم يغطِ كل القمم، ولكنه أباد البشرية بكاملها.
3-خلق المرأة من ضحية مانو، ثم تناسل البشرية منهما، عودة إلى قصة خلق الإنسان الأول (التي تشبه قصة آدم إلى حدٍ ما) بينما في أساطير بلاد الرافدين كان الناجي يحمل زوجته وأهله في السفينة.
وهذا الاختلاف، يوحي بعدم وجود ارتباط بين هذه الأسطورة وأساطير الطوفان الأخرى، ولكن فكرة الطوفان قد تكون عامة، لأن ظاهرة الطوفان تحدث في أمكنة مختلفة فتسبب كوارث، وسبيل النجاة هو صناعة السفينة والتوجه نحو الجبال.
الطوفان في التوراة(10):
روت التوراة في سفر التكوين في الاصحاح السادس والسابع والثامن قصة الطوفان، فأسهبت في سرد الأحداث، وبينت الأسباب والنتائج، ورواية التوراة فيها عناصر مشابهة للعناصر الموجودة في أساطير بلاد ما بين النهرين، وتختلف عنها في جوانب أخرى، وقد أثرت هذه الرواية في كافة أتباع الأديان الثلاثة: الموسوية والمسيحية، والإسلام، لذلك سأنقل هنا النص الكامل للاصحاحات الثلاثة، مع التعليق المناسب.
الاصحاح السادس:
1-ولما ابتدأ الناس يكثرون على وجه الأرض وولد لهم بنات.
2-رأى بنو الله بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لهن نساء من جميع من اختاروا.
3-فقال الرب لا تحل روحي على الإنسان أبداً لأنه جسد وتكون أيامه مئة وعشرين سنة.
4-وكان على الأرض جبابرة في تلك الأيام بعد أن دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولاداً أولئك هم الجبابرة المذكورون منذ الدهر.
5-ورأى الرب أن شر الناس قد كثر على الأرض، وكان كل تصور وأفكار قلوبهم إنما هو شر في جميع الأيام.
6-فندم الرب أنه عمل الإنسان على الأرض وتأسف من قلبه.
7-فقال الرب أمحو الإنسان الذي خلقت عن وجه الأرض، الإنسان مع البهائم والدبابات وطير السماء لأني ندمت على خلقي لهم.
8-أما نوح فنال حظوة في عيني الرب.
9-وهؤلاء مواليد نوح. كان نوح رجلاً براً كاملاً في أجياله وسلك نوح مع الله.
10-وولد نوح ثلاثة بنين ساماً وحاماً ويافثاً.
11-وفسدت الأرض أمام الله وملئت جوراً.
12-ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت لأن كل جسد قد أفسد طريقه عليها.
13-فقال الله لنوح قد دنا أجل كل بشر بين يديَّ، فقد امتلأت الأرض من أيديهم جوراً فها أنذا مهلكهم مع الأرض.
14-اصنع لك تابوتاً من خشب قطراني، واجعله مساكن واطله من داخل ومن خارج بالقار.
15-كذا تصنعه ثلاث مائة ذراع طوله، وخمسون ذراعاً عرضه وثلاثون ذراعاً سمكه.
16-وتجعل طاقاً للتابوت وإلى حد ذراع تكمله من فوق، واجعل باب التابوت في جانبه ومساكن سفلى وثواني وثوالث تصنعه.
17-وها أنذا آتٍ بطوفان مياه على الأرض لأهلك كل جسدٍ فيه روح حياة من تحت السماء، وكل ما في الأرض يهلك.
18-وأقيم عهدي معك فتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونسوة بنيك معك.
19-ومن كل حي من كل ذي جسدٍ اثنين من كل تدخل التابوت لتحيا معك ذكراً وأنثى تكون.
20-من الطير بأصنافها ومن البهائم بأصنافها ومن جميع دبابات الأرض بأصنافها يدخل إليك اثنان من كل لتحيا.
21-وأنتَ فخذ لك من كل طعام يؤكل وضمه إليك فيكون لك ولهم مأكلاً.
22-فعمل نوح بحسب كل ما أمره الله به هكذا فعل.
في هذا الاصحاح يمكن تحديد النقاط الأساسية التالية:
1-ازدياد شرور الناس على الأرض، وندم الرب على خلقه لهم فقرر محو البشر والبهائم والطيور والدبابات بطوفان مياه.
2-نوح رجل صالح نال حظوة في عيني الرب، فيخبره الله أن يصنع تابوتاً (سفينة) ويحدد له مقاساتها، الطول والعرض والعمق (السمك) وطوابقها (مساكنها) أي حدد الله لنوح حجمها الإجمالي. وصنعها نوح كما أمره الله.
3-حدد الله لنوح من يدخل معه، الزوجة والأولاد الثلاثة سام وحام ويافث وزوجاتهم، فركاب السفينة من البشر ثمانية فقط حسب رواية التوراة.
4-أمر الله نوحاً أن يدخل من كل ذي روح اثنين ذكراً وأنثى، وطلب منه تزويد السفينة بالمؤونة (الطعام) له وللأحياء التي سيحملها في السفينة.
الاصحاح السابع:
1-وقال الله لنوح ادخل التابوت أنت وأهلك فإني إياك رأيت باراً أمامي في هذا الجيل.
2-وخذ من جميع البهائم الطاهرة سبعة سبعة ذكوراً وإناثاً، ومن البهائم التي ليست طاهرة اثنين ذكراً وأنثى.
3-وخذ أيضاً من طير السماء سبعة سبعة ذكوراً وإناثاً ليحيا نسلها على وجه كل الأرض.
4-فإنني بعد سبعة أيام ممطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة، وماحٍ كل قائم مما صنعته على وجه الأرض.
5-فعمل نوح بحسب كل ما أمره الرب به.
6-وكان نوح ابن ست مائة سنة حين كان ماء الطوفان على الأرض.
7-ودخل نوح التابوت هو وبنوه ونسوة بنيه معه من ماء الطوفان.
8-ومن البهائم الطاهرة ومن البهائم التي ليست بطاهرة ومن الطير وجميع ما يدب على الأرض.
9-دخل التابوت اثنان اثنان إلى نوح ذكوراً وإناثاً كما أمر الله نوحاً.
10-وبعد سبعة أيام كانت مياه الطوفان على الأرض.
11-في السنة الست مئة من عمر نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر منه، في ذلك اليوم تفجرت عيون الغمر العظيم وتفتحت كوى السماء.
12-وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة.
13-في ذلك اليوم نفسه دخل نوح التابوت هو وسام وحام ويافث بنوه وامرأة نوح وثلاث نسوة بنيه معهم.
14-هم وجميع الوحوش بأصنافها، وجميع البهائم بأصنافها من كل طائر وكل ذي جناح.
15-ودخلت التابوت إلى نوح اثنين اثنين من كل ذي جسد فيه روح وحياة.
16-والداخلون دخلوا ذكوراً وإناثاً من كل ذي جسد كما أمره الله وأغلق الرب عليه.
17-وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض، فكثر الماء وحمل التابوت فارتفع عن الأرض.
18-وكثرت المياه جداً وتعاظمت على الأرض فسار التابوت على وجه الماء.
19-وكثرت المياه جداً جداً فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء كلها.
20-وعلت المياه خمسة عشرة ذراعاً على الأرض وتغطت الجبال.
21-فهلك كل ذي جسد يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش وجميع الزحافات التي تزحف على الأرض والناس كافة.
22-وكل من في أنفه نسمة حياة من كل من في اليبس ماتوا.
23-ومحا الله كل قائم كان على وجه الأرض من الناس والدبابات وطير السماء، فانمحت من الأرض وبقي نوح ومن معه في التابوت فقط.
24-وتعاظمت المياه على الأرض مئة وخمسين يوماً.
وفي هذا الاصحاح تكرار لبعض ما ورد في الاصحاح السادس، ويمكن تحديد بعض النقاط الأساسية فيه بما يلي:
1-حدد الله لنوح موعد ابتداء الطوفان، وهو اليوم السابع عشر، من الشهر الثاني من السنة ست مائة من عمر نوح، وأبلغه قبل سبعة أيام من بدء المطر، وأن المطر سيدوم أربعين يوماً وأربعين ليلة، فعظم الماء، واستمر تعاظم الماء مئة وخمسين يوماً (ربما نتيجة فيضانات آتية من مكان بعيد).
2-غطت المياه قمم الجبال الشامخة، وارتفعت على الأرض خمسة عشر ذراعاً، ولم يحدد النص ارتفاعها فوق قمم الجبال، ولكن يفهم أن كامل اليابسة غمرت بالمياه "وارتفاع الماء خمسة عشر ذراعاً غير كافٍ لتغطية أي تل عادي في سهل منبسط".
3-أهلك الطوفان جميع الأحياء على اليابسة، وهذا يفيد أن الأحياء الحالية هي من سلالة ما حمله نوح في السفينة.
الاصحاح الثامن:
1-وذكر الله نوحاً وجميع الوحوش والبهائم التي معه في التابوت، فأرسل الله ريحاً على الأرض فتناقصت المياه.
2-وانسدت عيون الغمر وكوى السماء واحتبس المطر من السماء.
3-وكانت المياه تتراجع على الأرض كلما مرت وعادت ونقصت المياه بعد مائة وخمسين يوماً.
4-واستقر التابوت في الشهر السابع في اليوم السابع عشر منه على جبال آرارات.
5-وكانت المياه كلما مرت نقصت إلى الشهر العاشر وفي أول يوم منه ظهرت رؤوس الجبال.
6-وكان بعد أربعين يوماً أن فتح نوح كوة التابوت التي صنعها.
7-وأطلق الغراب فخرج وجعل يتردد إلى أن جفت المياه عن الأرض.
8-ثم أطلق الحمامة من عنده لينظر هل غاصت المياه على وجه الأرض.
9-فلم تجد الحمامة مستقراً لرجلها فرجعت إليه، إلى التابوت إذ كانت المياه على وجه الأرض كلها، فمدَّ يده فأخذها وأدخلها إليه إلى التابوت.
10-ولبث أيضاً سبعة أيام أخر وعاد فأطلق الحمامة من التابوت.
11-فعادت إليه الحمامة وقت العشاء وفي فيها ورقة زيتون خضراء فعلم نوح أن المياه قد جفَّت عن الأرض.
12-ولبث أيضاً سبعة أيام أخر ثم أطلقها فلم تعد ترجع إليه أيضاً.
13-وكان في سنة إحدى وست مئة في اليوم الأول من الشهر الأول أن جفت المياه عن الأرض، فرفع نوح غطاء التابوت ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف.
14-وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين منه جفَّت الأرض.
15-فخاطب الله نوحاً قائلاً:
16-اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونسوة بنيك معك.
17-وجميع الوحوش التي معك من كل ذي جسد من الطير والبهائم وسائر الدبيب الساعي على ا لأرض أخرجهن معك ليتوالدن في الأرض وينمون ويكثرن عليها.
18-فخرج نوح وبنوه وامرأته ونسوة بنيه معه.
19-وجميع الوحوش والدبابات والطيور وكل ما يدب على الأرض بأصنافها خرجت من التابوت.
20-وبنى نوح مذبحاً للرب وأخذ من جميع البهائم الطاهرة، ومن جميع الطير الطاهرة، فأصعد محرقات على المذبح.
21-فتنسم الرب رائحة الرضى وقال الرب في نفسه لا أعيد لعن الأرض أيضاً بسبب الإنسان، بما أن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود أهلك كل حي كما صنعت.
22-وأبداً ما دامت الأرض فالزرع والحصاد والبرد والحر والصيف والشتاء والنهار والليل لا تبطل.
وفي الاصحاح التاسع، تشير الآيات إلى رضى الله على نوح وبنيه، وعهد الأمان بعدم انقراض الحياة على الأرض.
في الاصحاح الثامن وصف لتراجع المياه واستقرار السفينة (التابوت) على جبال آرارات ووصف لإطلاق نوح الطيور للتأكد من انحسار الماء فأطلق الغراب ثم أطلق الحمامة مرتين. ودام الطوفان أكثر من سنة على الأرض منذ ابتداء المطر وحتى جفاف الأرض.
ويقدم نوح ذبائح طاهرة للرب فيتنسم رائحتها بالرضى، ويتعهد بعدم لعن الأرض وتدمير الحياة عليها.
رواية التوراة لقصة الطوفان تضعنا في أجواء أساطير الطوفان البابلية وبشكل خاص ملحمة جلجامش، ويمكن الإشارة إلى بعض العناصر المشتركة بدرجات قريبة من التطابق:
أولاً: -سبب الطوفان: تكاثر البشر، وازدياد شرورهم وإزعاجهم للآلهة في (الأساطير) وفي التوراة نفس الأسباب مع ندم الرب على خلقه لهم، والتوراة تقر بالتوحيد (إله واحد).
ثانياً: صاحب السفينة: رجل صالح، تختاره الآلهة، وتأمره ببناء السفينة لينجو هو وأهله وأقرباؤه فقط (في الأساطير). وفي التوراة الرجل الصالح (نوح) يأمره الله ببناء السفينة لينجو بنفسه وأهله فقط.
ثالثاً: السفينة: يحدد الله أبعادها في بعض الأساطير، كما في ملحمة جلجامش، والتوراة فيها تحديد لأبعاد السفينة.
رابعاً: مدة الطوفان: حددت الأساطير مدة الطوفان بالأيام، في السومرية سبعة أيام بلياليها، وفي البابلية ستة أيام بلياليها، وفي اليونانية تسعة أيام بلياليها، وفي التوراة أربعين يوماً وأربعين ليلة مطر، ودام الطوفان أكثر من سنة. والتشابه ليس في التحديد بل في تعيين الزمن (الهدف من التوقيت).
خامساً: الطيور للاستطلاع: أطلق أوت-نابشتيم بعد استواء السفينة على جبل نصير، حمامة –ثم سنونو- ثم غراباً، ثلاثة طيور، وأطلق نوح، غراباً ثم حمامة ثلاث مرات.
وأنوه أن هذا التشابه في العناصر بين أساطير الطوفان، ورواية التوراة، لا ينفي حقيقة الطوفان بمقدار ما يؤكدها، ولكن كتبة التوراة يبدو أنهم تأثروا بروايات الأساطير فأرادوا إعطاء مبررات ودوافع أكثر منطقية للطوفان، ووصف حوادثه ونتائجه بخلفية الإيمان بإله واحد.
قصة الطوفان في القرآن الكريم:
ذكرت قصة نوح في عدة سور بشيء من التفصيل في الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر وسورة نوح، وتختلف الآيات بالألفاظ بحسب ما تكون الغاية من إيراد الآيات والمراد من معناها، سنكتفي بإيراد ما يفيد هذا البحث عن الطوفان. جاء في سورة نوح:
(إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم(1) قال يا قومِ إني لكم نذير مبين(2) أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون(3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجلٍ مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون(4) قال ربي إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً(5) فلم يزدهم دعائي إلا فراراً(6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً(7) ثم إني دعوتهم جهاراً(
ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً(9) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً(10) يرسل السماء عليكم مدراراً(11) ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً(12) ما لكم لا ترجون لله وقاراً(13) وقد خلقكم أطواراً(14) ألم تروا كيف خلق الله سبع سماواتٍ طباقاً(15) وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً(16) والله أنبتكم من الأرض نباتاً(17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً(18) والله جعل لكم الأرض بساطاً(19) لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً(20) قال نوح ربِّ إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً(21) ومكروا مكراً كباراً(22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودّاً ولا سواعاً ولا يغوثَ ويعوقَ ونسْرا(23) وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً(24) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً(25) وقال نوح ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً(26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً(27) ربِّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً(28)".
نلاحظ من سورة نوح، أن الله اختاره رسولاً لينذر قومه قبل أن يأتيهم العذاب الأليم فيؤدي نوح رسالته، ويبذل كل ما بوسعه لهدايتهم، يقدم لهم الأدلة والبراهين الكونية على وحدانية الله ليتركوا عبادة الآلهة الوثنية، فلم يستجيبوا له، فيطلب نوح من ربه أن لا يذر على الأرض من الكافرين دياراً، ويستجيب الله لدعائه، ونوح عليه السلام في القرآن الكريم كما ذكرنا مرسل من الله بينما في التوراة رجل صالح لم يكلف بالرسالة، فالله في التوراة يقرر هلاك البشرية والحياة على الأرض، بينما في القرآن لا يتخذ الله هذا الموقف إلا بعد إنذارهم وعدم إيمانهم واستكبارهم استكباراً.
وفي سورة هود حوار بين نوح وقومه، يريد هدايتهم ولكنهم في ضلالهم يعمهون فيقص القرآن الكريم: "وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون(36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون(37) ويصنع الفلك وكلما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون(38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلُّ عليه عذاب مقيم(39) حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومَنْ آمن وما آمن معه إلا قليل(40) قال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومُرْساها إنَّ ربي لغفور رحيم(41) وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزلٍ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين(42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين(43) وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين(44) ونادى نوح ربه فقال ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين(45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين(46) قال ربي إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاَّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين(47) قيل يا نوح اهبط بسلامٍ منا وبركات عليك وعلى أممٍ ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منّا عذاب أليم(48).
في الآيات السابقة من سورة هود، تأكيد أن صناعة الفلك كان بأمر من الله ووحي منه، وهذا يتفق مع نص التوراة في المضمون، كما هناك اتفاق بين حمل الأحياء والأزواج، وإن كانت التوراة أكثر تفصيلاً للأصناف، ورست سفينة نوح (التابوت) على جبل آرارات بينما استوت سفينة نوح في القرآن على الجودي، وجبل آرارات يقع حالياً في أرمينيا بينما الجودي شمال العراق.
ولا يتسع المجال لإيراد كافة الآيات التي تناولت رسالة نوح والطوفان، ومن مجملها نخلص إلى الإرشادات التالية:
أولاً: لا يوجد قرار إلهي مسبق بتدمير الحياة على الأرض كما ورد في الأساطير والتوراة.
ثانياً: الرجل الصالح المختار هو نوح، وهو رسول إلى قومه قبل قرار الطوفان، بينما كان اختيار الرجل الصالح في الأساطير بعد قرار الطوفان.
ثالثاً: تفاصيل الحدث غير واردة في القرآن، كما هي مفصلة في التوراة بالأيام والأشهر والأرقام فحجم الفلك في القرآن غير محدد ولكن وصف (بالفلك المشحون) بينما في التوراة وبعض الأساطير ترد أرقام تثير ملابسات عديدة.
رابعاً: لم يفصل القرآن في مدة الطوفان وارتفاع المياه بالأذرع، ولكن وصف أمواج الطوفان كالجبال، كما لم يشر إلى إطلاق الطيور للاستطلاع.
خامساً: حمل نوح في السفينة من كلٍّ زوجين اثنين لاستمرار التناسل، وحمل أهله باستثناء زوجته(11) التي لم تؤمن، وهذا يخالف ما ورد في التوراة وبعض الأساطير.
سادساً: تحدد التوراة أولاد نوح، سام وحام ويافث، ولم يحدد القرآن ذلك ولكن يفهم من آيات مختلفة أن ذريته هم الباقون.
هل الطوفان حقيقة؟
لا مجال لإنكار الطوفان، إذ أجمعت الأساطير والكتب المقدسة على وقوع هذا الحدث الكوني.
واختلاف الدوافع والغايات والنتائج في الروايات المختلفة عن الطوفان، ليس دليلاً على عدم وقوع الطوفان. فأي حدث بهذا الحجم تقادم عليه العهد سيكون عرضة للتأويل والتحريف. وقد فصلت التوراة في قصة الطوفان فلم تترك مجالاً للتأويل، بغض النظر عن مصداقية المواصفات والأرقام التي وردت في السفينة ومدة الطوفان، وهل ذلك ممكن من الناحية العملية؟.
أما القرآن الكريم فقص على محمد (() قصة نوح "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين".
فلم يوضح أين كان نوح، ومن هم قومه؟ متى كان ذلك؟ وكم بقي الطوفان؟ وهل كان عاماً على كامل الأرض؟ واستواء السفينة (الفلك) على الجودي لا يعني بالضرورة المسمى بهذا الاسم حالياً، لذلك كان أمام المفسرين والمؤرخين والمسلمين، مجال واسع للتأويل والاختلاف بما لا يتعارض مع المراد بالبيان الإلهي.
فأخذوا من التوراة، ومن روايات أشخاص لا علم لهم بما سلف، بدليل أن الرسول (() لم يعرف قصة نوح إلا بالوحي فكيف عرف أولئك تفاصيل الأحداث؟
وأذكر على سبيل المثال ما ورد في تفسير ابن كثير عن أبعاد الفلك: "وقال قتادة كان طولها ثلاث مائة ذراع في عرض خمسين ذراع، وعن الحسن طولها ستمائة ذراع، وعرضها ثلاث مائة، وعنه مع ابن عباس طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة، وقيل طولها ألفا ذراع وعرضها مائة ذراع فالله أعلم، وقالوا كلهم كان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع"(12).