مسارات حادة جدا
الفصل الأول
توفيقي بلعيد*
سعيد الأنبري، هذا هو اسمه الحقيقي،الذي توارى خلف الأسماء الكثيرة التي انتحلها في مسيرته المتعرجة فوق هذه الأرض …وبالرغم من كل ما أحيط بهذا الاسم من ضجة وغموض،و ما يحكى حول شخصية صاحبه هنا وهناك،والذي إذا تناولته بالبحث والتمحيص تجده متناقضا كل التناقض،مماينم عن واحدة من ثلاثة:إماأن الرجل عاش بوجوه مختلفة وبسلوكيات متناقضة بعدد الأسماء التي عرفها به الذين تحدثوا عنه، أو أن الذين خالطهم هم الذين كانوا بوجوه وبأقنعة عديدة، أو أن الرجل كان يلبس لكل حالة وجهاأوقناعا…ومع ذلك فإن ماجعلني أزدادأهتما به ،إلى جانب ماسبق،هو قراءتي للنعي الذي نشره يرثي فيه امرأة عرفها في حياته ، المليئة بالنساء…ذاكالذي أثار زوبعة من الأقاويل،وجر عليه متاعب جمة في الصحيفة التي يعمل بها،والتي نشرت نعيه دون أن تتوقع ماسيحدثه، والهجوم الذي ستتعرض له من قبل أقلام بعضها لتصفية الحساب مع سعيد نفسه والبعض الآخر مع الجريدة ومايمثله خطها،والبعض الآخربغية الركوب على المسألة من أجل انتشال اسمه من العدم،شأن كل الكتبة الذين يتسلقون بهامات الآخرين…
لقد جاء النعي بهذه الصيغة ،والذي عندما تعقبتُ أخبارَ صاحبه وجدت نفسي في متاهات لا تحصى ولا تعد...أرجو أن تتأملوه معي،لعلكم تكتشفون مايبرر كل هذه الضجة وهذا التحامل...
لنقرأ مثلا هذه الفقرة التي جاء فيها:
"اليوم فارقت الحياة امرأةحقيقية،امرأةلاككل نساء الأرض،أنثىبكل المعاني،وسيدة بكل ما تحمل كلمة سيدة من دلالات وعمق…
واحدة من النسوة،بل من النساء اللواتي رفعتهن البشرية، في العصور القديمة،إلىمراتب الآلهة والقديسات والملكات…عاشت حياتهابكل امتلاء،بكل وضوح،بدون التواء أو تخفي…
عندما عرفتها،علمتني كيف يجب على الإنسان أن يعيش الحياة بكل مسامه،كيف يجب أن يفعل ذلك بقلبه ولسانه وبكل ذرة في جسده،وكيف تكون العلاقة بين الرجل والمرأة طبيعية حقا وإنسانية بالفعل…
وعندما انفصلنا علمتني كيف يكون الفراق إنسانيا كذلك…معها استمتعت بكل دقيقة من حياتي،في حضورها الجسدي وغيابه،أصبح لكل شيء،وإن كان تافها ،معنى وضرورة…
وبعيدا عنها لم يتبق لي سوى الخواء من حولي،والهم العظيم الذي سأحمله معي وأنا فوق نعشي…
فليدرك اللحد الذي ضم جسدها أي وديعة غالية ونادرة بين جوانحه…"
وقد جاء النعي خلو من كل ما هو متعارف عليه من دعوة بالرحمة والمغفرة،أو بالدعوة بفسيح الجنان والصبر والسلوان..بل الأدهى من ذلكأنه تطرق للمحاسن الجسدية للراحلة،والإشارة لتفردها في ثقافة الخلوة والحميمة،والحديث عن كل خصالها الدنيوية،بعيدا عن طقوس الموت وذكر الآخرة..وقد استطرد في نعي لم يألفه أحد...
وعندما سأله أحدهم عن الأمر..أجابه:
- إن للموت قدرة كبيرة على كشف ما بدواخلنا،وتحديد الخندق الذي ننتمي إليه،ولأنني لست زائفا من الداخل فقد حددت قناعتي...
ثم مضيفا،بعد نقاش حول الطقوس التي ترافق الموت:
- من خلال هذه الطقوس تتسلل المعتقدات البالية، ومادمنا ننحني لهذه الطقوس مخافة أن نُنْعت بالمروق بالقدر الذي سيبقى الماضي بكل أوزاره جاثما على صدورنا،ليس الماضي بل أسوأ ما في ذلك الماضي...
ثم أردف موضحا :
- من خلال الطقوس تحافظ الجماعات والأفراد على معتقداتها وتستمر في إعادة إنتاجها...الجماعات التي لا طقوس لها تضمحل يقينياتها عبر الزمن،لذا لابد أن نجهز على الطقوس وفي أهون الحالات أن تكون لنا طقوسنا الخاصة بنا،وأذ لم نستطع فعلى الأقل لتكون لدينا الشجاعة على التعبير عن عواطفنا وتصوراتنا بكل حرية...
وأكثرما تميزت به هذه الضجة هوماهية المرأة التي تناولها النعي وطبيعة النعي نفسه،وهل هو حقيقي لموت واقعي،أم مجازي لموت رمزي…وخاضت الألسن في أسماء النساء اللواتي عرفهن سعيد الأنبري،العربيات والأجنبيات،وتصدرت اللائحة يعاد الأولى التي تفنن المتكلمون في وصف مفاتنها وجنونها،وكيف حولت سعيد إلى متيم لايفيق من الانبهار بها وبالعالم ،ولكأنه يرى كل شيء لأول مرة…وكيف كان فرحا يقدمها في المحافل للأصدقاءكقصيدة رائعة لم يسبق لسواه أن أبدع مثلها أو كقارة عذراء لم يطأهاأحدقبله…وكيف أصبح،بعد فراقه عنها،هائما على وجهه بين خمارات المدينة وأجساد مومساتها،في اندفاع أهوج لايدري المرء ما إذا كان انتقاما من ذاته أو من الأخرى في صورة غيرها…مبتعدا عن الأمكنة التي تذكره بها،وعن الناس الذين عرفوه معها…حتى أشرف على هلاك وأطل على جنون أنقده منهما حب جديد أنساه أو هكذا بدا للآخرين، ماكان قد عاناه…ولم يعد أحد،ممن كانوا يحصون أنفاسه، يعرف أين اختفت يعاد الأولى ولا ما حل بها،ولم يذكرهاأحد أمامه خوفا على مشاعره أو تجنبا لغضبه…( 1)
في عملية البحث والتنقيب في ملفه النسائي ورد اسم نرجس،التي كان يناديها بنون الجنون تلك التي ملأت عليه حياته بعد الذي حل به. بنت الاثنين والعشرين ربيعا،التي قطع وإياها مسافات العشق بسرعة الضوء،وكان يصرخ وإياها ساعة النشوة:" سنتحول أنا وأنت إلى رماد…" وقد تحققت النبوءة عندما،بفعل عوامل كثيرة، أصبح استمرارهما أمرا مستحيلا...انفصال عنيف خلق لديه ردة فعل قصوى سجلتها إحدى قصصه القصيرة،التي سيستمرصداها حتى بعد دخول هذه العلاقة دهاليز النسيان،وسيستعمل البعض مقتطفات منها ليشكك في مواقف صاحبها وعلى رأسها موقفه من قضية المرأة…( 2 )
وسيذهب غيرهم إلى الإستشهاد بكتابات سعيد الأخرى،وما جاء فيها حول هذه المرأة،ليدلل على عكس ماذهب إليه الفريق الأول ،حيث ورد في إحداها:"هذه المرأة، التي حالت كل الظروف دون زواجك منها،أصبحت (من خلال هموم الآخرين التي جمعتكما) صديقة فوق العادة،ومعها أدركت أن الرجل لا ينظر إلى المرأة إلا من خلال الزاوية التي تدفعه هي إلى النظر إليها...فهناك فرق بين امرأة تكشف عن أنصاف النهدين وعن شق صاعد حتى الورك...وبين أخرى تكشف عن ماهوعميق فيها من فكر وروح،وليأتي بعد ذلك الجسد ورغباته كتتويج أو كتعميق لتلك العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة...أما أن تعرض اللحم فوق رصيف العابرين وتصيح ها قد نهشتني الكلاب...ورغم أنني لا أنفي أن هناك ذئاب وكلاب ضالة وأن هناك ظروف قد تدفع الإنسان إلى السقوط،لكن مجموعة من النساء اللواتي عرفتهن علمتني أن ما كل اللحم يمكن نهشه..."(3)
عند ورود اسم يعاد اختلف المتجادلون حول اشتقاقات هذا الاسم وعن كم من يعاد مرت في حياة سعيد،وقد رسى الأمر على وجود أكثر من يعاد...
فيعاد الثانية...امرأة تعرف عليها خلال أسبوع للسينما البولونية ، لما دعاها لتلج صحبته قاعة العرض عندما وجدها ، في الزحام ، تبحث عن من يسلمها بطاقة للدخول...وبعد أسبوع من اللقاءات العابرة ،ومن الجلوس قرب بعضهما في الظلام لمشاهدة الأفلام...اختطفته ثملا من إحدى الخمارات،أو هكذا أحس،لتغتصبه في ليل شتوي بارد،فوق مائدة غرفة الأكل بمنزلها الشخصي،ثم ترمي به بعد شهر من المعاشرة في الشارع نصف عار مما كاد أن يتسبب في فضيحة له خلال ذلك الموسم، لولا أن أحد قرائه وُجد في اللحظة المناسبة بسيارته هناك وبالكاد أقنعه بالركوب معه ،ولما تم استفسار سعيد عن الذي حدث، رد مستهزئاً:
- "تريدني أن أوقع على اعتقال باسم الرباط المقدس، وحينما أردت توضيح موقفي من هذه المؤسسة التي يخنق مجرد اسمها أنفاسي، رمت بي من بين فخديها إلى الشارع…"
يتحدث العارفون بالأمور أن هذه العلاقة استمرت بشكل من الأشكال إذكان سعيد كلما وجد فرصة بين السنة والسنتين،يقوم بزيارة يعاد الثانية يواسيها في وحدتها،يقاسمها كأسا أو كأسين ويغادر..ومرد الإبقاء على هذه العلاقة، بالرغم من أن سعيد حافظ دائما على علاقات طيبة مع جل النساء اللواتي عرفهن،هو أنه اكتشف بالصدفة أن وراء ماحدث بينهما دسيسة امرأة جاءتها يوما لتنصحها بالابتعاد عنه، قائلة لها:
- إنه رجل يلهو بالنساء..وإن كذّبت فاطلبيه للزواج…
في مساء يوم النصيحة ،وعندما أطفأت النور واندست عارية قربه، أبصر، أو هكذا بدا له،بأن رأسها الذي كان قربه فوق المخدة محاطا ،في الظلام ،بألف علامة سؤال على شكل استفهامات متدلية من السقف كالمشانق.كانت أطرافها باردة،وأحس هو بالعدوى صقيعا يمتد إليه منها زاحفا فوق الفراش...
بادرته: ماهو الطريق الذي ستسلكه علاقتنا…
رد جازما بفرنسيةأنيقة:nullepart ..
أشعلت ضوء الأباجور.انتفضت جالسة .أخذت تتفرس فيه متأملة وصدرها الناهد يرتفع وينخفض ولكأنها استيقظت من كابوس...
تأملها متعجبا. مسح بعينيه الجسد الذي ، في بداية العلاقة،كان مشتعلا بالرغبة وهو يمارس حريته واشباع حاجياته أو نزواته،وعندما ارتوى واستكان دخل سوق المساومة أو تحول إلى رغبة عمياء في التملك...
ووجد نفسه يشرح موقفه:
- لاأريد أن أبيعك أي وهم. لقد خرجت مؤخرا من علاقة حب جارحة، أخاف أن يكون مابيننا مجرد بحث عن ضمادة أو عن قارب أمان …ماإن أشفى من جرحي حتى أرميك في سلة النسيان..لاأريد أن تعاني بسببي . يكفي أنني وثقت فيك أنا الذي لاأشعر ، حتى في بيتي، بالأمان…
بعد هذا التصريح ، الذي لم يكن سعيد قد قدر خطورته بالنسبة لامرأة شرعت في توديع مرحلة الشباب،وقفت عارية في ظلام الغرفة وبهستيرية جمعت ملابسه ورمت بها من النافذة.وفي لحظة جنون فتحت باب شقتها وطلبت منه وهي تصرخ أن يغادر بيتها وإلا ملأت الليل بالصراخ…
مضيفة بلهجة متهكمة:أتعتقد أنني واحدة من فرق الإنقاذ ؟ّ أدخلك بيتي وأسلمك نفسي من أجل أن تقول لي في الأخير nulle part ...
وللاستزادة في التهكم صفقت وانحنت محيية : لقد أعجبتني فرنسيتك...
حاول أن يخفف غضبها،وهو يتلمس السبيل إلى الكلمات التي قد لا تستفزها،هي التي تقف بكل عريها في حالة استنفار:
ــ اعتقدت أننا كلينا نستفيد من هذه العلاقة بالتساوي...
قاطعته وردت في سخرية وهي تمدد مخارج الحروف وتمطط الكلمات : بالتســـــــــــــــــــــاوي ؟؟ وآآآي.. يا سيدي وااااااااااااي.. بالتســــــــــــــــــــــــــــــاوي...
ثم أردفت : أطعمك رغيفي وآويك في بيتي و....وتقول بالتساوي..والله قوامة أنا عليك...
وعندما فتح فمه ليناقش . أخرسته بإشارة حازمة مشيرة إلى الباب :
ــ أخرج...برَّا...
تلقف ما تبقى من ملابسه ،من يديها ،وأغلبها داخلي ،وشرع في ارتدائها وهو متدحرج على الدرج باتجاه خارج الإقامة...
ومن النساء اللواتي خاضت فيهن الألسن طويلا وبشكل معقد وغريب،مواطنة غربية عرفت بماري كريستين، المواطنة الفرنسية التي زهدت في مركزها ووظيفتها وعائلتها..والتصقت به من اجل الشعر والجنس والثورة…والتي في لحظة غضب قام بتسفيرها إلى بلادها وهو لايدري أنها حامل منه،إلا عندما قامت بإخباره ،بعد سنوات، بذلك... وفي بحثه عنها وعن ابنه باءت كل جهوده للعثور عليهما بالفشل،مما أصبحت معه ،هذه المرأة،لغزا محيرا يلخصه ساعة التذكر في سؤال جارح:"من وضع هذه المرأة في طريقي؟ من الذي كان من مصلحته أن يسقيني ،بعد قطرة العسل ، كل هذه المرارة..؟"
هذه المرأة التي ذهب الذين التقوا بها ،صحبته، كل مذهب..فمنهم من قال بأنها كانت تعمل لصالح إحدى أجهزة المخابرات الغربية،وأن أنسب مكان لتلقف الأخبار وتحسس نبض المجتمع والتعرف على التنظيمات كان منزل سعيد،خصوصا أن الفترة التي عرفها فيها كانت المنطقة تمور بالعديد من الأحداث السياسية،حيث كانت فرنسا متورطة في أكثر من جبهة بإفريقيا،على رأسها جبهة التشاد/ليبيا،وكان منزله ملتقى للعديد من المعارضين للأنظمة التابعة للغرب،وبؤرة لكل عناصر ما كان يعرف وقتها بالتيارات اليسارية المتشددة.. ورأى فيها البعض ،ربما، مجرد بوهيمية فشلت في البقاء في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي فانضمت إلى مجموعة من أنصار الطبيعة حيث العري الجماعي،وهو ما كانت تمارسه داخل منزلهما،ألم يعد مرة من العمل فوجد وفدا من إحدى المدن ينتظره في غرفة الجلوس وأفراده مطأطئن وكأن على رؤوسهم الطير، استغرب للأمر،وللاستقبال الخجول الخالي من الصخب الذي استقبلوه به…وعندما أطل من النافذة التي فوق رؤوسهم أبصرها في باحة المنزل عارية كما ولدتها أمها فأدرك الوضع الصعب الذي كان عليه الرفاق،فقال مقهقها:
ــ الآن عرفت الطامة الكبرى التي استقبلتكم عند قدومكم ،وطلب منها أن ترتدي ملابسها فهؤلاء ماركسيون بأخلاق إسلامية...
وفسر آخرون مكوثها مع سعيد،واستغنائها عن عائلتها ووظيفتها المهمة بما كان يتمتع به من فحولة كان الحديث عنها شائعا بين الذين تناولوا علاقته مع النساء ، وهو أمر تحدثت عنه اللواتي عرفنه عن قرب... وإن كان ذلك لا يستقيم والحالات الكثيرة للواتي هجرنه أو لحالات الخيانة التي مارستها بعضهن وهن مرتبطات بعلاقة معه،وإن كان سعيد يفسر ذلك بالفهم الخاطئ للحرية التي يعتقد البعض أنها تبدأ من العبث بالثقوب قبل تكسير أقفال عديدة، ويفسر حالات الهجر بالبحث عن أوهام الثراء في زواج يقدم ضمانات أكثر لأسرة مستقرة،وهو ما كان منعدما في الحياة المتقلبة لسعيد،الذي بالكاد كان يجد الوقت للاختلاء بامرأة لأكثر من ما تسمح به علاقاته المتعددة بهؤلاء الذي يزورونه في كبد الليل بأسماء مستعارة ووجوه تغطيها لحى كثيفة وتموه ملامحها قبعات من مختلف الأشكال،ويغادرون بعد دقائق،مخلفين وراءهم جوا من الريبة والشك..أو يمكثون عنده دون أن يغادروا لأيام،يتصرفون كما لو أنهم في منازلهم،ودون مقدمات أو موعد يختفون كما جاؤوا دون أن يتركوا آثارا تدل عليهم،غير عابئين بالحميمية التي تبحث عنها امرأة تطمح لأن يكون هذا الرجل لها لوحدها وأن تكون هي قضيته الأولى والأخيرة كما صرحت إحداهن مرة وهي تشكو أمرها لأحد أصدقائه قبل أن تحزم حقائبها وترحل... لذا لم يكن التفسير الذي أعطاه البعض للعلاقة التي جمعت ماري كريستين بسعيد قادرا على الإقناع...الكثيرون أشادوا بثقافتها وبتمكنها من المجالات التي تتطرق إليها بمعرفة وعمق..الغير شكك في أصلها الفرنسي واعتبر ذلك انتحالا وإلا فلماذا لم يتم العثور عليها في التراب الفرنسي رغم أن سعيد استعمل كل معارفه وأصدقائه هناك في بحث تعجز عنه أكبر أجهزة البوليس في العالم؟...وما مدى صحة تلك المعلومة التي مفادها أنها قد غادرت إلى مصر ومنها إلى جهة مجهولة رجح البعض بأن تكون فلسطين المحتلة؟،وهنا انقسم ،المنقسمون أصلا، فمن رجح التحاقها بالمقاومة الفلسطينية خصوصا أولائك الذي حضروا النقاشات التي دارت في البداية بينها وبين سعيد وكيف استطاع أن يقنعها بعدالة قضية الشعب الفلسطيني،وكيف أنها فيما بعد شاركت في كل التظاهرات التي كانت تساند القضية...الآخرون،من المتشككين في كل شيء، كانوا يميلون إلى كونها عميلة للمخابرات الإسرائيلية،دليلهم اهتمامها الشديد وإصرارها المرضي لحضور كل الأنشطة حتى تلك التي كانت تتم في أضيق نطاق،ومن الأدلة الأخرى التي كانت تساق للدلالة على صهيونيتها،وهو دليل يبعث على الضحك،كونها كانت ترقص على موسيقى الأغاني الملتزمة ،التي لم تكن تفهم كلماتها العربية،معتبرين ذلك نوع من تمييع للقضية...وعن قيام سعيد بترحيلها ذهب النمامون عدة مذاهب،لا يتسع المجال لاستعراضها كلها الآن،وإن جاء على لسان شهود عيان،بأنهم رأوا سعيد ليلا قادما صحبتها ،من جهة الشاطئ، باتجاه الحي الذي يسكنه، وهو في حالة من الغضب لم يُشاهد عليها أبدا،وقد التقطت الآذان كلمات مثل الخيانة. الطعن من الخلف. مكسرو الثورات…ولكن لم يتفق ناقلو هذا الخبر على مضمون معين،سوى أنهم اجمعوا على أن ذلك حدث ليلة قبل ترحيلها في الصباح الباكر عبر أول طائرة غادرت المطار ذلك اليوم،وهو ما يرجح أن قرار إبعادها كان مُتخذا من قبل،وليس وليد تلك المشاحنة الليلية وما يرتبط بها...
وقد أكد سعيد للمقربين منه : نعم رحلتها تماما كما ترحل الحكومات الغربية أهالينا...
وتؤكد علاقة سعيد بماري كريستين عدم نسيانه لما فعله الاستعمار ببلده وأسرته...ألم يتذكر في لحظة التحامه بجسدها ،في أول ليلة ،تاريخ احتلال فرنسا لوطنه..؟ وقد ردد ،مع نفسه ، وهو يلهث فوق جسدها :" أهي عودة لأحضان المغتصب أم هو انتقام منه..؟"
لكن من أغرب العلاقات التي حدثت خارج السياق العام،خارج خريطته الإيديولوجية والسياسية وحتى خارج علاقاته الجمعوية...والتي جرت عليه،في إبانها، الكثير من القيل والقال،واتخذها البعض حجة لتدليل عن بهيميته وشهوانيته وتسيبه،هي علاقته بيعاد الثالثة،تلكالتي سيصادفها وهو في أواخر الثلاثين من عمره،المرأة التي سيصطحبها، من بلدها أحد الأثرياء ،إلى بلده تحت ستار مربية لأبنائه، متخذا إياها عشيقة . وعند انكشاف أمرهما سيسفرها إلى انجلترا لتستمر علاقتهما هناك في كتمان شديد،مما سيدفع بالعشيقة ،بعد أن صلب عودها،وملت من الوعود،للرحيل هربا إلى إيطاليا لتخالط أفراد عصابات المافيا وعناصر الجريمة المنظمة في أوروبا…
كانت في إجازة ،كما ادعت ،عند لقائها به أول مرة،إلا أنها اعترفت وهي في حالة سكر شديد بأنها عادت هاربة من عشيق حاول قتلها بعد أن خانته،وأنه تعقب خطاها من مدينة أوربية إلى أخرى وعندما شدد عليها الخناق،وأدركت أنها هالكة لا محالة،عادت إلى أرض الوطن…
اللقاء بيعاد الثالثة حدث خارج الدائرة المعهودة التي كان يتحرك فيها سعيد،لذا كانت له طقوسه الخاصة،وكانت لقاءاته في الغالب خالية من أحاديث السياسة والثقافة،أو هكذا كان يبدو من غياب المصطلحات وأسماء الزعماء والتنظيمات،وعبارات مثل:"التحليل الملموس للواقع الملموس"..إذ كانت الجلسات تبدأ بالكأس وتنتهي بالكأس وداخل الدوخة يمارس الجسد جنونه دون قيود أو موانع…العواطف أيضا كانت تمارس جنونها..والأفكار والمواقف كانت تعبر عن نفسها بدون حذر أوخوف..مع هؤلاء المبعدون عن مساحات التعبير النمطي،وعن ميكروفونات الإعلام وشاشاته وصفحاته...سمع تحليلات عميقة واكتشف وعيا شقيا وفهماذكيا بما تمور به الحياة،مع هؤلاء أدرك كم يكون الساسة والمثقفون على خطأ عندما يعتقدون أنهم وحدهم يملكون الوعي والمعرفة باعتبارهم يحوزون الوسائل المؤدية إليهما...
في خضم هذه العلاقة تعرف على لغة أخرى وعلى اهتمامات شخصية لا تأخذ قضاياه المعروفة ولا قضايا الآخرين بعين اعتبار.. ولمس أن لهؤلاء، المبعدين عن مواقع الرأي والقرار،المنغمسين في الصراع اليومي، قضاياهم المرتبطة بضرورة البقاء على قيد الحياة،فلا وقت لديهم للانشغال بنظريات حول الإستراتيجي والتكتيك... هؤلاء الذين تتهددهم،خارج أي ضمانة أو تأمين،آفة الجوعوالمرض... نضالهم يومي،وصراعهم دقيقة بدقيقة كالعابر النهر سباحة،كل توقف عن الجذف بالأذرع والأرجل معناه الغرق... معهم اكتشف حاجيات مما يخفيها الذين يعرفهم وراء ستار من المقولات الجاهزة..وقد صادف مرة،خلال هذه الجلسات، واحدا من أولائك الذين يعيشون داخل إطار من وقار، وقد عقدت له الخليلة ،لكي يرقص، وسطه وأصعدته فوق مائدة فبدا بكرشه الضخمة ،من تحت كحيوان غريب،ولحسن حظه أنه لم يكن يعرف سعيد الذي كان يتخفى وراء اسم منتحل،وإلا كان صاحبنا سيصاب بسكتة قلبية أو بشلل نصفي هو الذي لايترك فرصة تمر دون الحديث عن الأخلاق الفاضلة وربط كل تفسخ بالأفكار المستوردة من الغرب...
كما أن ،سعيد في علاقته هذه، سمع قصصا أغرب من الخيال عن الوجه الآخر للرجولة ،وعن علاقات ما وجد لها النص المقدس تشريعا ولا تنظيما،وتاه هناك بعيدا عن عالم المقولات والأفكار التي تبحث عن بديل...
كيف انتهت هذه العلاقة،ومن أنهاها؟
العارفون يقولون إن المبادرة جاءت من سعيد،هذه المرة [في علاقته مع مونيك كانت المبادرة منه أيضا،وهي قصة يطول شرحها] والسبب هو اكتشافه بأن يعاد الثالثة كانت متزوجة من رجل يعمل خارج أرض الوطن وأنه يقضي معها بعض الوقت ليغيب لسنوات بدون حساب،وهذا ما رجح عدم زواجها من الثري الذي كانت قد غادرت معه،كخادمة لديه،أرض الوطن...
الاكتشاف جاء صدفة إذ في أحد الأيام أبصر امرأة تمسك بذراع رجل بشكل حميمي،أعجبه المنظر ، تفرس في الوجه المتواري خلف النقاب،فاجأه أن هاتين العينين غير غريبتين عنه،اقترب أكثر،فأحس أن المرأة تحاول أن تتحاشاه بالإشاحة بوجهها وبسحب الرجل الذي برفقتها بعيدا،الرجل الذي لم يدرك ما يدور،بالقرب منه، نهر المرأة وهو ينطق اسمها،كان طفل يتشبث بطرف بنطال الرجل وهو يحاول أن يلفت نظره لشيء ما مناديا إياه ، بين الفينة والأخرى، بكلمة بابا،أدرك سعيد كل شيء في الحال ؛ ولكي يقطع الشك باليقين اتصل بصاحبة لها طالما رافقتها إلى الجلسات الخاصة،لتؤكد له ما ذهبت إليه ظنونه، وبحثا لصديقتها عن ظروف التخفيف، أردفت بأن الرجل زوج يعاد شرعا، أما فعليا فهي في حكم العازبات ، مادام يغيب لسنوات بدون نفقة أوأي اهتمام ، ويلتقي بها أياما معدودة خلال إجازته السنوية (مالم يكن قد قرر قضاء إجازته في بلد آخر) وختمت بكون زواج صديقتها أشبه بزواج المتعة أو السياحة الجنسي…
لكن سعيد،برغم كل هذه التبريرات،اعتبر الأمر خيانة وفي أهون الحالات تدليس وقع هو ضحيته،وما يثبت ذلك هو أنها لم تتطرق طيلة علاقتهم التي تجاوزت الستة أشهر لحالتها،ولو تلميحا، مع أنهما خاضا في مواضع كثيرة مست أحيانا مناطق الظل لدى كل واحد منهما،وهو ما يعني أنها كانت تعتبر أن ماتقوم به أمرا غير مقبول...لذا لم يكن أمامه إلا وقف هذه العلاقة بدون تردد وبدون أية شفقة...وحتى عندما جاءته،بعد سفر الزوج،لتشرح له ملابسات وضعيتها رفض كل حديث في الموضوع،ورفض كل التبريرات...
الشيء الذي كان يثير حفيظة سعيد هو أن يتذرع مخطئ بخطأ صاحبه،وأن يدعي أنه ما كان ليقدم على الخيانة لو أن رفيقه لم يخن...وكان يوضح:" أنه إذا ما حدث وخان الشريك في العلاقة ،أية علاقة، فعلى "الضحية" رجلا كان أو امرأة أن يثبت أنه خير من صاحبه لا العكس..
كما أنه كان يعتقد بأن الخائن يقوم بفعلته حتى وإن لم يخنه أحد، والشريف شريف وإن كانت المواخير تحيط به من كل جانب...
وداخل هذه الدوامة من الفرضيات والنبش والتنقيب والإدعاءات في الكثير من الأحيان…جرى الحديث، في جو من الغموض والتشويش، عن علاقة تمت خارج أرض الوطن مع شابة خلال أحد سفرياته العديدة،عندما توجه إلى جنوب لبنان مابين1972 و 1977للمشاركة في أحداث هناك تتعلق بالثورة الفلسطينية، التي ربط مصيره بها منذ انطلاقها، مع أن البعض يرجح أن هذه العلاقة تمت بعد ذلك بعشر سنوات من هذا التاريخ الذي ردده الكثيرون (4).. وكيف انتهت هذه العلاقة بمأساة ؛ إذ وجدت الشابة الصحفية ميتة،وقيل وقتها أنها قضت منتحرة،وكيف دخل سعيد الأنبري في موجة حزن فضيع،حتى أوشك على الهلاك…وتعتبر هذه العلاقة،وأخرى سابقة لها في الزمن، وإن كانت في نفس الفترة،مع سيدة في سن الأربعين من عمرها،والتي أخذت حيزا أيضا،من أقدم علاقاته،قبل أن يصبح معروفا في الأوساط التي تنهش اليوم لحمه،والتي لم يكن لها وجود يذكر عندما كان سعد من تلك الأقلية التي واجهت الاستبداد،لذا لم يتم التعرف على الاسمين ولا على تفاصيل العلاقتين،وإن كان الكثيرون قد استبعدوا العلاقة بين الصحفية الشابة والنعي لكونها ماتت أو قتلت منذ سنوات، فإن فرضية أن يكون متعلقا بالسيدة الأخرى ليس أمرا مستبعدا…وحتى في هذه الحالة كان هناك من يبحث عن اجتهاد يجعل الصحفية الشابة هي المقصودة بالنعي،فسعد الأنبري لا يحسب العمر بالساعات،ولا يربط الحياة والموت بالأجساد،ألا يكون مثلا قد استفاق من كل سنواته التي أمضاها في البحث عن السلوان ليجد أن حبيبة قلبه قد ماتت اليوم بالرغم من مرور كل تلك السنوات على وفاتها…ألا يكون،وهو القادر على حفظ الود،قد خبأها حية بين جوانحه،وبعد أن أعيته المكابرة أقر اليوم بموتها كجزء من موته،الذي كرر ما مرة:"نحن لا نموت دفعة واحدة،إننا نموت بالتدريج…".
ولم يقف الأمر عند هذه التحاليل وهذه الأسماء،بل تعداه إلى لائحة طويلة من الإناث…ولم يستطع أحد أن يعطي دليلا قاطعا،يعزز به الفرضية التي يدافع عنها…وبقي السؤال قائما حول ما إذا كان النعي حقيقيا أو مجازيا و ما إذا كانت الفقيدة رمزا أو امرأة من لحم ودم…؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عندما ورد هذا الاسم لأول مرة في كتابات سعيد،خلق بلبلة عظيمة إذ ادعت كل واحدة أنه يعنيها وأنه أطلقه عليها عندما كانت معه…وادعى البعض أنه يعرف صاحبة الاسم الحقيقية ،واجتهد البعض الآخر ليعيده إلى مصدره،ويبرر أسباب الاشتقاق…إلا أن المقربين منه ينفون كل هذه الإدعاءات، ويذهبون إلى أن صاحبة هذا الاسم توفيت منذ سنين طويلة،وأن ماعدا ذلك مجرد افتراء على الشخص والحقيقة…
(2) نعتقد أن المقصود هنا هو أقصوصة"أربعة وجوه لامرأة واحدة" الصادرة سنة 1981 بمجلة "أقلام" المغربية ...
(3) رواية "ذاكرة الجراح" الصفحة 164، الطبعة الأولى سنة 2001 مطبعة فضالة / المحمدية (المغرب) / المؤلف توفيقي بلعيد
(4) أسر لي المقربون منه ، وهم قلة بأن هناك خلط في التواريخ، وأن سعيد سبق وأن توجه مرة، في أواسط السبعينيات من القرن العشرين إلى لبنان ، للتدرب على السلاح من أجل أن يهيئ نفسه لحروب التحرير الشعبية،التي كان يعتقد أن الظروف ستكون مواتية ليخوضها في أكثر من مكان... وهو بذلك كان يؤمن بالثورة الدائمة عن طريق الانخراط في كل الجبهات التي ستشتعل ضد الإمبريالية والطغاة المحليين. وقد كان مثله الأعلى،بالرغم من مبادئه الماوية، شخصية الثائر أرنستو التشي غيفارا...أما المرة الثانية فكان من أجل الدفاع عن الثورة الفلسطينية وعن لبنان ضد الاجتياح الإسرائيلي في صيف مطلع الثمانينات... وهؤلاء المقربون يؤكدون أن هذه العلاقة قد تمت بعد رحلته الثانية بفاصل عشر سنوات ،خلال زيارة قام بها إلى داخل الأرض الفلسطينية المحتلة تلبية لدعوة إحدى الفصائل الثورية...